|
|
رئيس التحرير : فتحي العريبي |
|
|
|
قررت تتبعها من البداية علاقتي بالكراسي - شأن علاقة الناس جميعا - قديمة .. قدم حياة المرء ذاته . غير أن العجيب في علاقتي الشخصية بها أن كرسيا واحد لم يدخل بيتنا إلاّ عندما قرر والدي- ذات يوم - أن يلتقط لي صورة يوم عيد ما ، مع أختي، وابنة خالتي ، وجدتي رحمهما الله . في ذلك اليوم أحضر إلى بيتنا كرسيا من مقهاه ! ، ثم عاد به مباشرة بعد التقاط الصورة . ولكن الصورة لم تنل رضاه فأخذنا – من دون جدتي ! - إلى المصورة اليونانية ( أنجلينا ليفادارس ) عند ناصية شارعنا – شارع محمد موسى - ، حيث أجلستني على كرسي ، ولو تأملت الصور التي التقطها (عرب بنغازي ) لأنفسهم وذويهم - في مطلع خمسينيات القرن الماضي - فسوف تجد هذا الكرسي حاضرا فيها .
أما الشيخ (الخليجي)، فهو والدي – رحمه الله- فقد كان لبس الشماغ - أو ( العقال ) - من أناقة الأعياد ، خصوصا عيد المولد النبوي الشريف. أما الطفلتان فقد صارتا جدتان ، فيما أخذت ( أنجلينا ) الكرسي معها إلى أثينا ! . علاقتي بالكراسي قديمة بسبب وجودها في مقهى أبي ، وبسبب صفها أمام بيوت جيراننا عند يعقدون قرانا . كان أبي غالبا ما يكلف بتنظيم هذه الاحتفالات وغالبا ما يكون لي مكانا فوق ( الكارو ) الذي ينقل الكراسي إلى بيت العروس ، حيث أساهم في رصها على جانبي الشارع ، متطلعا بين حين وآخر إلى القِدر الأبيــض الكبير ، الذي يخلط فيه والدي ( الشربات ) والثلج ، أما ( الباصتي ) فغالبا ما يكون محفوظا داخل البيت حتى يتكامل حضور المدعوون وجلوسهم على الكراسي ، بعد صلاة العصر مباشرة .
حينها يعلن فقيه الجامع عقد قرآن فلان على ابنة فلان، وما أن ينتهي الدعاء لهم بالرفاء والبنيين ، حتى يتفرق الجمع وتٌحمل الكراسي و تنتهي علاقتي بها بمجرد عودتي إلى بيتنا . وظل الحال على هذا النحو ، حتى اجتزت المرحلة الإعدادية ، حينها تبرع لي والدي بكرسي من كراسي المقهى ، بعد أن عالج - بسلك معدني غير قابل للصدأ - رجلا من أرجله كانت مكسورة. اعتاد صديقنا الأديب الراحل خليفة الفاخري يقضي ( العشية ) جالسا على كرسي أمام محل صديقنا حمد بورقيد،الذي يبيع أدوات صيد السمك بشارع عمرو بن العاص .
ذات يوم قلت له : " الفنان على الشعالية ، وكذلك الأستاذ محمد عبد الرازق مناع – رحمهما الله – كانا مثلك يـحبان الجلوس هناك .. أمام مكتبة الشعالي الخراز .. " أجابني ساخرا : " لو ابتعدا عن الكتب لكانا أطول عمرا ، ثم أن الجلوس هنا يذكرني بأصدقاء لم أنل من صداقتهم إلاّ ( زفرة الحوت ) ! " في تلك الأيام كنت أمارس صيد السمك ! ، وحمد بورقيد بالمناسبة مصور بارع ، وغطاس وأيضا صائد أسماك .
كان التجار يستوردون الشاي السيلاني في صناديق خشبية ، وكان معظم البقالون بشارع عمرو بن العاص يستخدمون تلك الصناديق ، كمقاعد لهم ولأصدقائهم ، فمازلت أتذكر أشكالا لصناديق كنت أراها أمام دكان عوض التركي ، رمضان خليف ، مفتاح بورقيد ، ومحمد اللواحي ، أما حسن خليف ، وفرج الدنيني فقد كانا يتشاجران طوال الوقت مع والدي لاستحواذهما ، طوال اليوم على كرسيين ، من كراسي مقهاه التي لا تتجاوز العشرة أحدهما من دون مسند ! وذلك مقابل قهوتين ثمن الواحدة قرشا ونصف ! . ولعل المرحوم مفتاح مناع ، هو أول من وضع كرسيا بشكله المعروف أمام محل الحلاقة ، الذي افتتحه في مطلع ستينيات القرن الماضي . ولعل كثرة الصناديق ، هي ما جعلني أحس بأهمية الكرسي ، خصوصا بعد أن شاهدت تلاميذ مدرسة (لوتو جروبو ) جالسين علي صفائح معدنية كان الجنود الإنجليز يستخدمونها لنقل الوقود ، وقد خاب ظني ذلك اليوم في المدارس ، التي كنت أتطلع إلى اليوم الذي أكون ضمن تلاميذها ، ورأيت أن الجلوس على حصير كتّاب الجامع أفضل بكثير ، من الجلوس فوق تلك الصفائح الصدئة . مدرسة ( لوتو جربو ) أقيمت في مطلع الخمسينيات بثكنات معسكر أخلاه الجيش البريطاني يقع بشارع عمرو بن العاص ، بالقرب من ضريح عمر المختار – سابقا - ، ولكنها لم تستمر هناك طويلا حتى نقلت إلى مدرسة ( توريلي ) ، التي كانت هي الأخرى معسكرا سابقا ولكن لا أدرى إن كان للطليان ، أو للإنجليز . كنت قد ذهبت إلي مدرسة ( لوتو جروبو ) رفقة أحد صبية شارعنا يحمل كراسا لأخيه، فكانت تلك الزيارة هي رؤيتي الأولى لفصل دراسي . وحينما دخلت فصلي بمدرسة الأمير ، أول مرة ، سنة 1953م تقريبا اندهشت ، وفرحت ، لرؤيتي للمقاعد الخشبية المزدوجة ، التي أخبرنا مدرس الفصل أنها تٌصنع في ورشة الأشغال – أو ( الجينيو ) - التي كانت تقع بمنطقة رأس أعبيدة ! فقد فضل عدد من أسرى الحرب الألمان البقاء في البلاد عن عودتهم إلى ألمانيا بعد هزيمتهم وانتصار الحلفاء . صار الألمان صناعا في تلك الورشة ودربوا العديد من الليبيين ، وظل ( الجينيو ) يفي بالكثير من احتياجات البلاد ، خصوصا المقاعد . وعلى مقاعد ذلك الفصل ، والفصول التي تلته ، اختلفت أحاسيسي بمقاعد تلك المرحلة ، رغم أنها متشابهة إلى حد التطابق . فحين تتحسن درجاتي ينقلني الأستاذ عبد السلام قادربوه ، أو الأستاذ المبروك بوزعكوك ، أو الأستاذ طالب الرويعي ، أو الأستاذ أبوبكر الهوني – رحم الله من رحل منهم ، وأطال عمر الأحياء - من صف الحمير إلى صف الشطار ، فاشعر بسعادة وراحة بمقعدي الجديد ، أما إن نقلت بمحاذاة النافذة فتصير سعادتي لا توصف ، غير أن هذه النقلة ، غالبا ما تكون سببا في عودتي السريعة إلى صف الحمير لانشغالي بمراقبة الشارع !. وفي نهاية المرحلة الابتدائية ، وبامتداد المرحلة الإعدادية ، توسعت علاقتي بالكراسي ، فجلست عليها في سينما النهضة ، ثم سينما الحرية ، باعتبار أنهما قريبتان من شارعنا ، حتى أن باب سينما النهضة الخلفي يقع بمواجهة بيتنا ، فكنت أستجدي والدتي أن تعد الشاي للعاملين الذي يكنسون السينما صباح اليوم التالي من أعقاب السجائر وقشور اللب ! . صار الشاي وسيلتي للتقرب من مسئولي الصالة ليسمحوا بحضور العروض مجانا . أما سينمات الهلال ، وتسعه أغسطس وهايتي وركس فلم اجلس عليها إلاّ في مرحلة متقدمة . وإن كنت شاهدت مباراة ملاكمة ، كان ( سلاحيب ) أحد طرفيها ، وكان المرحوم عبد الله عثمان مدربه . وكيفما يتفق ، فإن إحساسي بتلك الكراسي لم يتغير حتى بتغير الأفلام ، أعني استمتاعي وانسجامي مع أفلام إسماعيل ياسين متساو مع فلم مصاص الدماء ، الذي كان يكلف والدتي طبق ( شرمولة ) ، وأحيانا ( شكشوكة ) تعده ، بإلحاح مني ، إفطارا لمسئول الصالة باعتبار أن الأطفال – الذين لا يقدمون إفطارا لمسئولي السينما من سكان شارع محمد موسي ! - ممنوعين من مشاهدة أفلام الرعب .. إحساسي بالراحة والخصوصية غمرني عند وصولي للمرحلة الثانوية ، لأن الكرسي ، أو بمعني أدق الدرج ، لم يعد مزدوجا ، خصوصا وأن مقاعد مدرسة شهداء يناير ، التي شيدتها ، في ذلك الوقت ، اليونسكو كانت متميزة لم يرها طلبة الفترة الصباحية من قبل ، أما نحن الذين جئنا من مدرسة العمال الليلية ، فقد كان معظمنا موظفين تجعلهم علاقاتهم بالكراسي المتطورة لا ينبهرون كثيرا بتميز تلك المقاعد المدرسية الجديدة . عندما صرتُ، قبيل مطلع ستينيات القرن الماضي بقليل، كاتبا للفواتير بمصلحة المنافع العامة ، التي كانت آنذاك مسئولة عن الكهرباء ، والمجاري ، والمياه ، أخذني ( البشكاتب) – المرحوم ونيس الجبالي ، الذي تضاعفت خشيتنا منه بسبب كونه ملاكما عملاقا ! - إلى صالة تتوسطها منضدة كبيرة ، حولها يجلس حوالي عشرون كاتبا يكتبون فواتير استهلاك الكهرباء ، يطرح الفرق بين القراءة السابقة والحالية ، ثم يضرب الناتج في قرش ونصف ، ثم تضاف الدمغة وأجرة العداد وتسلم إلى الحسابات لتدوينها قبل تسليمها - في الموعد المحدد إلى المستهلك . وعلى الرغم من أن الكرسي الخشبي - مصنوع أيضا في الجينيو ، الذي يتبع بالمناسبة المصلحة نفسها – إلاّ أنه كان مريحا للغاية لأنني فوقه صرت موظفــا يحق لي مرتبا شهريا قدره ستة جنيهات نقلت أسرتي نقلة هائلة من حال إلى حال . لم انتبه إلى بقية كراسي المصلحة ، فقد كنت مشغولا بحالي الذي انتقل من مرحلة الصبا إلى الرجولة ، وإن كنت ما زلت صبيا ، سعيدا بعلاقاتي التي توسعت والعدد الهائل من رفقاء المصلحة ، التي ارتبطت بمعرفتهم من خلال جلوسنا معا طوال الوقت حول تلك المنضدة العملاقة . وكنا نتنقل من كرسي إلى آخر ولذلك اغلبنا لم يرتبط ارتباطا وثيقا بتلك الكراسي ، باستثناء أفرادا ارتبطوا بكراسي محددة لا يجلسون على غيرها ، ولذلك تظل كراسيهم شاغرة إن غاب أصحابها لسبب ، أو آخر . أغلب هذه الكراسي التي ارتبطت بأصحابها زودت بأمخاد ، أو بقطع من بطانة الغنم ، بل بعضهم نقش اسمه على مسند الكرسي . والآن بعد مضي هذه السنون أقول أن معظم أولئك الذين ارتبطوا بكراسي معينة يميلون إما للانطواء ، أو لسرعة الغضب ونادرا ما يشتركون مع الزملاء في دعاباتهم ، أو رحلاتهم . عندما نقلت كاتبا للرسائل الصادرة والواردة مع أمين المصلحة الإداري المرحوم محمد عبد الهادي استيته ، صار لي كرسيا يختلف عن تلك المصنعة في ( الجينو ) ولكن بعد انتقالي إلى قسم المياه ، صار لي كرسيا معدنيا ، وبعد أن صرت سكرتيرا لعجوز إنجليزي اسمه ( مستر آدم ) صار لي كرسيا متحركا ، وبعد أن خلفه المهندس محمد المنقوش ، في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي ، كبيرا لمهندسي المياه صرت سكرتيرا له وتخصص لي كرسي جلدي فخم . وطاولة معدنية أمامها كرسيين للضيوف . ومباشر أمام المكتب ينظم دخول المراجعين .
ثم ضاعت الكراسي كلها عندما وجدت نفسي ، رفقة 450 طالبا بمدرج أحمد رفيق بكلية الآداب . كان الطلاب يذوبون رقة وأدبا وعذوبة إن جلسوا خلف الصف الأمامي حيث تجلس الفتيات ، ويصبحون أوغادا إن جلسوا في صفوف المدرج الخلفية . لا أذكر – خلال دراستي الجامعية - أنني رأيت أحد من أساتذتي الدكاترة جالسا على كرسي في قاعة المحاضرة ، سوى مرة واحدة عندما أحضر لنا الدكتور محمد على العريان ( جوزه قرد ) وضعها أمامنا وجلس بمواجهتنا وطلب منا أن نكتب عن الجوزه وعلاقتها بعلم النفس . ولكن عندما نتردد على أساتذتنا في أقسامهم يكونون هم الجالسون ونحن الواقفون ، فلا أذكر أن بالأقسام كراسي لغير الأساتذة ! . وعندما قدمتٌ ، بعد ربع قرن ، أستاذي الدكتور محمد فرج أدغيم ،لأحد الزملاء ،اعترض ، وقال ممازحا : " أنا لـم أكن أستاذه ، وإنما كنت زميله في الفصل نفسه ، احترمه كثيرا أقف أمامه فيما يظل هو جالسا . كان يواجه السبورة فيما كنت أوليها ظهري " . وبعد أن تخرجت ، وصرت معلما حرمت مجددا من الكرسي ، فلم يكن لي بمدرسة عمال بنغازي الليلية كرسيا . كنت أعطى حصصي ، وأغادر المدرسة سريعا ، هاربا من المرحوم رجب النيهوم ، الذي كان يؤكد لي عندما كنت طالبا أنني حالة ميئوس منها ، ثم صار يذكرني بها عندما صرت مدرسا كثير التأخير في الحضور . غير أن الكرسي عاد مجددا بعد عملت مسجلا لكلية الطب البشري ، وكدت أن التصق به بسبب فخامته وراحته ، فقد خصص لي مكتب وكيل الكلية ، المرحوم الدكتور محمد الزواوي ، الذي لم يباشر عمله وقتها لسبب أجهله ، ولكن بقائي في الكلية لم يستمر كثيرا وعندما عملت بالأسواق وجدت كرسيا أفخم . وبعد أن صرت مديرا لشركة لصيد أسماك أختلف أمر الكرسي نهائيا ! أحسست عندما جلست فوقه أنني مميز ، وأنه عال ، وخشيت أن يقع بي ، فتركته واخترت كرسيا من كراسي طاولة الاجتماعات ، وظللت اعمل منه إلى أن تركت الشركة فقد خفت من كرسي المدير الرئيسي ، لأنني أحسست فوقه أنني أكبر من الذين لهم علاقة بالشركة ، سواء أكانوا موظفين أو مراجعين لها ! ، خصوصا بعد أن نبهني مراجع غاضب ، لم تقض حاجته بأنني مجرد مدير بائس لشركة ( مزفرة ) ! وأن هذا الكرسي اللعين لو دام للمرحوم ناجي الزوي لما وصل لي .
|
|
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |