|
|
رئيس التحرير : فتحي العريبي |
|
|
|
|
الكرسي وعين الفنان عين الفنان الحقيقي لاقطة ، فعين الفنان التشكيلي ، مثلا ، تلتقط الألوان . وعين المصور الفوتوغرافي تصير عدسة ، تتأثر بالضوء وتجذبها الزوايا ، فتلتقط ما تغفل عنه بقية العيون . والصورة إن أعجبت الكاتب تلتقطها عينه .. بظلالها ، وضوئها ، وألوانها فيختزنها ليزين بها – عند الحاجة - مكان فكرته . أما إذا كان الفنان مثابرا ، مأخوذا بفنه – كالفنان فتحي العريبي مثلا- فإن أعماله تكون ببساطة تحفا حقيقية يعجز الزمن على طمسها ، أو التقليل من قيمتها .
أعتدت أن أجلس بمحل ، لأحد أبنائي يبيع أنواعا وأشكالا متنوعة من الكراسي . وفي صباح يوم خريفي جميل ، دخل علىّ صديقي فتحي تسبقه ابتسامته الدافئة الودودة . التفت يمينا ويسار ، ثم رفع يده ، وقال مهللا : يا سلام . ثم أنزَلَ من فوق كتفه حقيبته وأخرج منها آلة تصوير ، وشرع يلتقط صورا للكراسي ، من زوايا مختلفة . تذكرت موقعة الجميل على شبكة المعلومات ، الذي اختار ( كراسي ) عنوانا له ، وتعجبت لعينه التي انتبهت لما لم انتبه إليه . أعترف أنني كثيرا ما أخذتُ بالصور التي يعرضها موقع كراسي . أذكر منها على وجه الخصوص صورة رائعة التقطها لكوم من كراسي صادفته في دمشق ! .. وأعترف أن هذه الصور قادتني إلى مواضيعها الأدبية الجميلة .
وقف فتحي أمامي و قال : اسمع .. كلما مررت من أمام هذا المحل تتملكني رغبة تصوير هذه الكراسي ، والبارحة علمت أنه لأبنك ، وأنك تقضي به بعضا من وقتك . هيا قم حدثني عن هذه الكراسي . قل لي ما الفرق بين هذا الكرسي ، وذاك ?.. هيا . أجبته مبتسما : كرسي ! .. ماذا يكون أكثر من كرسي ؟ ولكنه أصّر على قيامي . رضخت له وقمت ، فشرع يتتبعني بعدسته . قف هناك .. أمسك بذلك الكرسي الأحمر .. ( تشك .. تشوك ) .. أنزل يدك واجلس هناك عند ذلك الكرسي الأزرق . ثم فتح عينه اليمنى ، و رفع اليسرى من خلف العدسة . اسمع ! " قال : أريدك أن تكتب لي موضوعا عن الكراسي . ابتسمت ، وسألته متعجبا : عن الكراسي ؟ وماذا بمقدوري أن أكتب عنها ؟ .. ثم أنني لست كاتبا عموميا فهو ، فقط ، القادر على الكتابة عند الطلب . أحسست أن إجابتي أزعجته ، فاستطردت مازحا : حاضر يا أيها الفنان الجميل . سوف أكتب لموقعك موضوعا عن الكراسي . وسوف أجعلها من أجلك مقاعد مناسبات ليبية - خمسه خمسه ! - ما عليك إلاّ أن تقلب الكرسي ! . حاضر كل ما أحتاجه مجرد فكرة مناسبة يزرعها الله في رأسي ، الذي لم يعد ملكي كما كان . بعد أن غادرني ، انتبهت أن علاقتنا ، نحن الكتاب ، وثيقة بالكراسي ، لأننا – على أقل تقدير– لا نكتب إلاّ ونحن جالسون عليها ! .. والفاخري – رحمه الله -مثلا ، عندما يكتب يكاد أن يصير وصلة متينة بين المنضدة والكرسي .
والكٌتّاب غالبا ما يطرحون مواضيعهم لجالسين على كراسي. ويغذون عقولهم – وأيضا بطوننا من فوقها . ذلك إذا استثنينا الناقد نورالدين الماقني ، الذي لا يستوعب تماما ما يقرأ ، إلاّ وهو واقف !! . ولما كان الأمر كذلك أفلا تكون مثل هذه العلاقة مادة غنية للكتابة ؟ وتذكرت المقال الممتع الذي كتبه الدكتور محمد المفتي ، والذي تناول الجانب البيولوجي في علاقة المرأة بالكراسي ( أنظر مجلة : كراسي العدد الثامن - 27 نوفمير 2005 ) ، وكذلك تداعيت الدكتور نجيب الحصادي عن الموضوع ذاته ، وهو الذي لا يكتب إلاّ بعد أن ( يجلس على كراسي عقله ) العامر بالفلسفة ، وبالأدب والفن ، ( أنظر كذلك إلي العدد الخامس - مجلة كراسي - أغسطس 2005 ) ، فأيقنت بإمكانية كتابة شيء ما عن الكراسي . وقفت عند هذا الحد ، وإن صرت أراقب بدقة زبائن المحل ، وهم يتفحصون الكراسي قبل ابتياعها ! . يشدني هذا الذي يختبر الكرسي بالجلوس فوقه ، وإلى ذلك الذي يبتعد عنه وينحني قليلا ويتأمل أرجله ، والآخر الذي يمسك بمسنده ويهزه قليلا ، وذاك الذي يطبطب على مقعده ! . انتبهت أنهم جميعا يحتاجون لهذه الكراسي ، وجميع الكراسي ، التي يتفحصونها تؤدي – تقريبا – الغرض نفسه . فما الذي يجعل سبل انتقائه مختلفة ؟ . الإنسان، إذن، هو الذي يضع الفوارق في خياراته ، وفي تقييمه لاحتياجاته . وانتبهت أن الكراسي صارت تجذب انتباهي ، وأحسست أنها موضوع يستحق أن نتفكر فيه ، وقد نكتب عنه ! . وذات مساء ، وأنا ما زلت أتفكر في مسألة الكراسي ، شاهدت الرئيس السابق صدام حسين . جالسا على كرسي في قفص الاتهام ، تماما مثلما سبق وأن رأيته جالسا ، قبل إطاحته ، يدير جلسة عمل لمجلس قيادته ، فتساءلت : هل إحساسه بجلوسه على الكرسيين متماثلا ؟ أعني هل يشعر بالراحة ذاتها ؟ . ولكن دعونا من السيد صدام ، فتبدل حاله يحول دون مقارنة منطقية . إنما القاضي لم تتبدل أحواله ، فهو ما زال في موقعه .. فهل يغمره الإحساس نفسه بالتميز أو القوة ، عندما يحاكم رئيسا- أو مسئولا مهما - سابقا ؛ أو يحاكم لصا أو قوادا ؟. ثم هل القاضي ، والمتهم ، والمحامي ، وممثل الادعاء والشهود ، ومتتبعي الجلسة يغمرهم الشعور ذاته ؟ هل راحتهم فوق الكرسي متماثلة ؟ فالمكان واحد ، وسبب التجمع واحد ، غير أن أحوال بعض الحاضرين هي فقط التي تغيرت ! فهل الراحة فوق الكرسي بسبب مقعده الوثير ، أم بسبب قوة مركزه ؟ . وهل الجالسون في المسارح يحسون بالمتعة نفسها ، التي يحس بها الجالسون بمقاعد المحاضرات ، أو بمقاعد المحاكم ، أو بالمناسبات الاجتماعية ؟ للكراسي ، إذن ، مواضيع مثيرة ، وكثيرة ، وممتعة ! وهكذا وجدت نفسي مائلا للكتابة عنها . ولكنني ظللت أياما أتساءل ماذا بمقدوري أن أكتب عنها؟ معظم الأمثلة التي تناولتها تتناول إحساس الغير . وهذا موضوع يصعب التسليم بنتائجه ، ذلك لأن التسليم بصحتها أمر لا يمكن تأكيده . ولكن المواضيع التي تتناول إحساسنا الشخصي هي ما يمكن بسهولة تأكيد صحتها . فمثلا ، لو حاولت أن تسأل نفسك عن سبب انتقاءك لكرسي بعينه ، من بين كراسي الضيوف بمكتب صديق لك اعتدت التردد عليه ، فإنك لن تعرف الإجابة ولكنك بالتأكيد تنتبه أنك فعلا ترتاح بكرسي بعينه ، وأنك تنزعج عندما تجده مشغولا ، وأنك ستنتقل إليه بمجرد أن يقوم من كان يشغله ! . لو تأملت هذه المسألة فسوف تجد لها أسبابا كثيرة بعضها تستطيع أن تفسره ، والآخر سوف يستعصى عليك ! . العلاقة وثيقة ، إذن ، بين الناس والكراسي ! . والعلاقات الوثيقة مثيرة .. وهكذا قررت أن أجعل من علاقتي المباشرة بالكراسي موضوعا لمقالتي هذه .
"" أضغط علي الصورة التي تود تكبيرها "
|
|
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |