|
(27) من مجموعة المقالات التي نشرت للشاعر القدير الأستاذ نزار قباني في مجلة ( الحوادث ) اللبنانية خلال عامي 1977 و1978 مقالة له في غاية الأهمية ترصد بدقة متناهية تساقط أمطار الشعر والزمن الهارب الذي يتشكل علي شفتي فيروز . بعد ثلاث سنين من العطش ( نشرت هذه المقالة بتاريخ 17 .2 .1978 ) جاءت السيدة ذات الصوت المائي .جاءت فيروز ، هجمت علينا كغمامة ، هجمت كقصيدة ، هجمت كمكتوب غرام قادم من كوب آخر ، هجمت كتفاصيل حب قديم , بعد ثلاث سنين من التوحش ، مررنا تحت أقواس صوتها الحضاري ، فتحضرنا . يري نزار العظيم أنه من الغلط تسميتها سفيرة أو أميرة أو وزيرة فكل التسميات بنظره صغيرة عليها بل يعتبر أن كل اللغات أقصر من قامتها . وهنا يصرح نزار في مقالته البديعة بقوله : إنها أهم من كل الوزارات والمؤسسات والبرلمانات والنشيد الوطني . ويؤكد أنها أكثر أهمية من الطوابع التذكارية والبطاقات البريدية ووكالات الأنباء وافتتاحيات الصحف وأحزاب اليمين وأحزاب اليسار وأحزاب الوسط ، يلتقط نزار العظيم أنفاسه ويقول بعد صمت قليل : إنها وحدها حزب ، إنها حزبنا ، حزب الذين يبحثون عن الحب وعن العدل وعن الشعر وعن الله وعن أنفسهم . أمس في مسرح البيكاديللي كان الوطن يمشي ، خلال لحظات نهض كل شيء من مكانه ومشي وراء فيروز وعاصي ومنصور ، ويمضي نزار في وصف ما شاهده في تلك الليلة قائلا : هنا الجبال والأنهار والبحار والصيادون والمآذن والكنائس والمدارس وخوابي الزيت والقناديل وعصافير التين وأرغفة الخبز المرقوق ورائحة العرق المطيب باليانسون وأجران الكبة المتقاعدة عن العمل في زحلة . أمس ( يقول نزار ) أمس في مسرحية : بترا رأينا فيروز ترش ماء الزهر علي وجه الوطن فيصحو من غيبوبته . ورأي نزار ضمن ما رأي أن الحجارة تتبعها والشبابيك تتبعها وأشجار الغابات والينابيع وأكواز الصنوبر والخرفان الربيعية تتبعها وتراب لبنان من الهرمل إلي النافورة يتبعها . وأكتشف نزار أن الوطن قد ولد كالقصيدة بين شفتيها فيما كان لبنان يتشكل كما تتشكل اللؤلؤة في داخل المحارة وكنا نتشكل علي ضفاف حنجرتها كما يتشكل العشب علي ضفاف نهر كبير . فيما تحول مسرح البيكاديللي إلي سرير ولادتنا الثانية ، وكانت فيروز في كل لحظة صوتية تعطينا تذكرة ميلاد جديدة وعمرا جديدا .فماذا فعلت هذه السيدة المائية الصوت بشاعرنا الكبير ؟ من جهته ذهب إليها يحمل لبنان بين يديه سبع عشرة قطعة ، فنفخت عليه وأعادته إليه قطعة واحدة ، وكان نزار قد دخل عليها كمشوه حرب وخرج من عندها صحيح متمتعا بكامل العافية ، وقال : دخلت عليها لا أقرأ ولا أكتب وخرجت من مدرسة صوتها بدرجة امتياز . بل ( والكلام ما يزال عند نزار ) دخلنا عليها مجانين وخرجنا عقلاء ، دخلنا عليها رملا وترابا وخرجنا شجرا ، دخلنا عليها أكلة لحوم بشر ، وخرجنا شعراء . أمس كنا علي موعد مع العمل الرحباني الممتاز : بترا . كنا علي موعد مع المائية الصوت ، وعلي نحو ما يتذكر نزار ، يتذكر أنه كان بيننا وبين صوت فيروز حفرة كبيرة ، كبيرة أسمها الحرب الأهلية وكان بيننا وبينها جبال من الحزن وقارات من الملح ، بيننا وبينها زمن من البشاعة والموت واللاشعر ، ولم يخف نزار خوفه : كنا خائفين أن لا تعرفنا ، كنا خائفين أن لا نعرفها ، وكان نزار في غاية الخجل من الستارة الحمراء ومن المقاعد ومن الموسيقي ومن الشعر ومن نفسه . وخوف نزار في تلك اللحظات بسبب الحرب التي عملت علي طرده من الشعر وجعلته رغما عنه غير قادر علي الانتماء لعصر فيروز ولا لأي عصر آخر . وفي تلك الليلة كان مطلوبا من صوت فيروز أن يكون أكثر من صوت ، وكان مطلوبا منه أن يكون زعيما وقائدا سياسيا ومعلما وقديسا ونبيا ، وهذا بالضبط ما كان يشغل تفكير نزار قبل رفع الستارة . وفي اللحظة المنتظرة غنت فيروز وبدأت أمطار الشعر تتساقط وبدأ الزمن يتكون مرة أخري وبدأت أعمار الحاضرين تتكون مرة أخري والوطن يتأسس علي شفتيها ، يتأسس غيمة غيمة ، وشجرة شجرة ، وبيتا بيتا . |
|
|
|
|
|
|
غلاف الكتاب
|
|
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بنقل أي جزء من نصوص وصور هذه الصفحات إلا بإذن كتابي من المؤلف فيما عدا حالات الاقتباس القصيرة بغرض النقد أو التحليل وفقا للقواعد التي تفرضها الأصول العلمية . |
|
مواقع أخري جديرة بالتصفح |
|
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |