|
(18) في مطلع العام 1965 وفي ليلة صيفية من ليالي جبل انطلياس
قال صديق الرحابنة رجا الشوربجي لعاصي لماذا يا صديقي بعد كل هذا النجاح لا
تلجون مجال السينما خاصة وأنه يتوفر لديكم فيروز بكل جلالها وحضورها المؤنس
وعندكم الألحان الضخمة والأشعار الرشيقة ، والفرقة الشعبية في متناول إشارة
منكم لتلبية هذا النداء في أي وقت ترغبون .. لماذا لا تقومون بتحويل واحدة من
مسرحياتكم الناجحة إلي فيلم سينمائي ؟
وتشاء الظروف أن يصل إلي لبنان المخرج يوسف شاهين الذي تحمس للعمل مع فيروز وعندما علم المنتج نادر الأتاسي بما يدور في الأروقة الرحبانية أتصل بهم علي الفور ليعرض مساهماته ، وبالفعل وقع الاختيار علي مسرحية ( بياع الخواتم ) لستند مهمة الإخراج للفنان يوسف شاهين .
تقول حكاية هذا الفيلم أن أغلب التصرفات بين الناس تبدأ بكذبة وعادة ما تكون أشبه باللون الأبيض علي قماشة الرسم في مستهل فعل التشكيل ، وحين تطالها الألسن والشفاه تضاف إليها ألوان أخري لم تكن في الحسبان مثل الأصفر المشتعل والأحمر الدامي وأزرق السماء وغير ذلك من الألوان العظيمة والتي يتعامل معها كبار الرسامين من وزن وقيمة الهولندي فان جوخ . ففي قرية بعيدة من قري الجبل اللبناني ، فيها كل ما فيها ، مختار يبسط حمايته علي الأهالي بسحر الأكاذيب وشاويش يفرض سطوته علي دوريته ليل نهار ، ومشاكل لا تعد ولا تحصي بين المتزوجين وأحلام فتيات في عمر الياسمين وفتيان من ذوي الحناجر البديعة ، وكلما صغرت القرية وضيقت عليها الخناق المدن الكبيرة كلما ازداد الناس فيها بحثا عن حكاية تلهب خيالهم .. تخدرهم ، وتستولي علي الإعجاب . وهنا تقدح مخيلة المختار ( نصري شمس الدين ) بكذبة صاغها بعناية كي يستمر في تأكيد أهميته ويبتدع أكذوبة عن مجرم وقاطع طريق اسمه : راجح ويروي لهم كيف تصدي له في الوديان وفي الأحراش كي يمنعه من دخول القرية لسلبها ونهبها وقتل الأبرياء . وحينما نفرغ من مشاهدة هذا الفيلم البديع ، نتذكر أن المسرح الليبي في سنة من سنوات تألقه في السبعينيات قد تطرق هو الأخر إلي هكذا موضوع مع اختلاف في التفاصيل ، ونعني بذلك مسرحية : العفريتة التي عرضت بنجاح علي خشبة المسرح الشعبي في بنغازي . فراجح عند الرحبانة والعفريتة لدي المسرح الشعبي ، وجهان لعملة واحدة ، أكذوبة عن عدو وهمي أو تصرف خبيث أشبه بحكاية ( كيس الفئران ) المشهورة في واحدة من أدبيات الخلافة العربية في الأندلس والتي طواها الزمن ليس بفعل الصراع علي السلطة كما تزعم مؤلفات المستشرقين وإنما للاستحواذ بأي ثمن حتى لو أدت الرغبات الجامحة للتنازل عن قصر الحمراء للغواني الروميات واللواتي في عيونهن حور تحديدا ، وهذا ما حدث بالضبط في نهاية المطاف . والمراد من هذه الحكاية كما يوضح ابن رشد ( في أحد كتبه التي ضبطت مع أحد تلاميذه في محاولة لتهريبها إلي روما في جمارك مطار قرطبة وحرقها مع غيرها فيما بعد في احتفال تكفيري مهيب ) أن تظل الفئران داخل هذا الكيس في حالة هيجان وقلق دائم بحيث لا يتمكن أي جرذ مهما كان ذكيا أو متميزا في قرضه للشعر أو أكواز الذرة ، أن يفكر في وضعه الراهن المضطرب أو التخطيط للنفاذ من هذا الكيس طالما أنه يهتز بداخله علي الدوام ، وفي هذا ما يطيل عمر المختار في المختارية والشاويش في محاولاته المضنية للقبض دون طائل علي راجح حيا أو ميتا باعتباره إرهابيا من المطلوبين للمثول أمام عدالة أهالي القرية. ريما ( فيروز ) ابنة شقيقة المختار تنطلي عليها هذه
الكذبة وتثني علي خالها أمام جمع من القرويين ، غير أنها تتعب من تمثيل دور
الزور وتسأل خالها حينما ينفردان : لماذا تصر يا خالي علي مطاردة راجح طالما
أنه لم يقم بأي فعل عدواني حتى الآن ؟ الخال أو المختار يخبرها صراحة أنه لا
وجود لراجح أبدا ، وأنه أخترع هذه الشخصية ليوهم الناس بأن مختارهم يحميهم
ويستميت في الدفاع عنهم ، ويسقط - كما يقال - في يد ريما وتستفظع هذا الإدعاء
العاري من الحقيقة ، غير أنه وكأي مختار كذاب يؤكد لها أن ما فعله ليس كذبة
وإنما مجرد حكاية ، حكاية تعززها الأشعار وتستنهض همم الأهالي وتوقظ فيهم
مجاهل الأشياء .
(19) الإرهاب في فيلم - بياع الخواتم |
|
|
|
|
|
غلاف الكتاب
|
|
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بنقل أي جزء من نصوص وصور هذه الصفحات إلا بإذن كتابي من المؤلف فيما عدا حالات الاقتباس القصيرة بغرض النقد أو التحليل وفقا للقواعد التي تفرضها الأصول العلمية . |
|
مواقع أخري جديرة بالتصفح |
|
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |