|
(16) صباح يوم السبت 21 .6 . 1986 - انطفأت شعلة قنديل عاصي الرحباني وكان قبل ذلك بأسابيع قد دخل في غيبوبة عميقة وكان بين حين وآخر يسترد عافيته الهاربة لدقائق وفي هذه الدقائق النادرة من عمر الإبداع يتمتم بكلمات خافتة وعاجزة ، عن جفاف البحر واعتقال النوارس في أغنية لم يمهله القدر كي ينتهي من صياغتها جاء في مطلعها قوله ( أفتحيلي .. أفتحيلي قتلني الصفير والبحر مالو صوت .. دخيلك أفتحيلي ) غير أن الكلمات العذبة تحجرت علي شفتيه ، واسترخي لسانه عن الحركة رويدا رويدا، أغمض عينيه ودخل في غيبوبته من جديد .. دخلها راضيا مرضيا ولم يخرج منها بعد ذلك أبدا . غاب عاصي وأخذ معه تلال الصنوبر وأيام الصيفية والبحر وأوراق الألحان الجميلة وغاب إلي غير رجعة ، وفي مقبرة تقع علي تلة الغوارنة في انطلياس تركوه لوحده يغادر العائلة ، تركوه وحيدا وهو الذي سكن قلوب الناس بموسيقاه البديعة وأشعاره الرشيقة . في ذكري الأربعين وضعت الدولة ( بلاطة ) تذكارية علي بيت أم عاصي ، تخليدا لهذا البيت الذي شهد مولده ومولد الأعمال الرحبانية الخالدة . وفي السنة الثانية لرحيله جاءت ديناصورات الهدم إلي بيت العائلة بأمر معتمد من البلدية وتوقفت أمامه وأخرج كبير المهندسين لفافة من الأوراق الشفافة وطفق يشرح خطة الاجتياح لأعوانه وللفضوليين علي حد سواء ويعدد الحجج التي ترمي إلي توسيع الشارع لصالح حركة السير وما شابه ذلك من ادعاءات باطلة كانت وراء إزالة الكثير من المدن العربية القديمة. ففي أنطلياس ووسط دهشة الناس وخوفهم علي بيوتهم وعلي نباتات الزينة التي تتسلق النوافذ والشرفات صدر أمر الإعدام ، إعدام من نوع آخر، وفي لمح البصر وكأي بيت فلسطيني في القدس الشرقية هاجت من حوله هاتيك الآلات الفولاذية العملاقة لتكتسح في لحظات بيت العائلة والبلاطة التذكارية معا وتجرف أمامها العريشة التي تغنت بها فيروز في أكثر من أغنية كقولها : تحت العريشة سوي قعدنا سوي وقلنا .
وعصفورة الدوري لم يعد لها عشا تلوذ إليه في الصيف أو بالشتي عصفورة صغيرة من عصافير الدوري تعرف عاصي ويعرفها وتعرف فيروز ، هذه العصفورة طارت مذعورة من عشها لتسأل طائر السنونو الجوال ، عما يحدث ويجري للبيت الجميل فقال لها من دون أن يتوقف عن الطيران : لا عليك يا عزيزتي ابحثي لك عن عش آخر في الأحراش البعيدة ، وأردف يقول من دون أن يتوقف عن طيرانه المنخفض : ألم أقل لك مرارا أن لا كرامة في هذه الضيعة للعصافير المغردة . لف عصفور الدوري أجنحته حول جسده النحيل وطار علي عجل ليحط فوق صخرة الروشة لا لينتحر بل ليبكي عاصي بطريقته علي انفراد. وهكذا أختفي بيت الرحبابنة من الوجود كما غاب عاصي من حياتنا الفنية وكان لوقع هذا الغياب أثره المؤلم علي فيروز وظلت لفترة تكابر وتخفي أحزانها .. تكابر وتخفي آهاتها لكنها لم تتخلي عن مشاعرها الكريمة أبدا .
(17) نزار الثاني |
|
|
|
|
|
|
|
غلاف الكتاب
|
|
جميع
الحقوق
محفوظة
ولا يسمح
بنقل أي
جزء من
نصوص
وصور هذه
الصفحات
إلا بإذن
كتابي من
المؤلف
فيما عدا
حالات
الاقتباس
القصيرة
بغرض
النقد أو
التحليل
وفقا
للقواعد
التي
تفرضها
الأصول
العلمية
.
|
|
مواقع
أخري
جديرة
بالتصفح |
|
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |