|
العدد
السادس |
رئيس التحرير : فتحي العريبي |
|
عبقري لم يتجاوز المرحلة الابتدائية ولد الفنان : محمد محمد الزواوي الترهوني بضواحي مدينة بنغازي سنة 1935 ، وتلقي تعليمه الأساسي ببلدة مدرسة الأبيار الداخلية حتي السنة الرابعة الابتدائية ، ثم انتقل لمدينة بنغازي لمواصلة دراسته ، ولظروف عائلية اضطر لترك الدراسة وعمل كرسام بالقسم السمعي والبصري التابع للمصالح المشتركة ( النقطة الرابعة الأمريكية ). عندما حلت المصالح المشتركة سنة 1961 ، ضُم القسم السمعي والبصري لوزارة الأنباء والإرشاد ، وفي سنة 1963 انتدب – محمد الزواوي – للعمل في مجلة : الإذاعة بطرابلس كمخرج صحفي ورسام ، وعلي صفحاتها خط أول لوحة ساخرة . ثم أنتقل لمجلة : المرآة – كمخرج ورسام إلي جانب نشر رسومه في معظم الصحف والمجلات الليبية . طبعت أعماله الكاريكاتورية في مجلدين ضخمين ( الوجه الآخر ) و ( أنتم ) ، وخاض بنجاح مجال الرسوم المتحركة ، ونفذ منها ما يزيد عن 100 دقيقة من أبرزها سلسلة أفلام يوميات جحا الليبي . كما أقام هذا الفنان الموهوب وغير المسبوق أبدا في تاريخ الحركة التشكيلية الليبية ، العديد من المعارض المحلية والعربية والدولية والتي استحوذت علي إعجاب وتقدير الناس أينما عُرضت. عن الفن والفنان ورحمة الوالدين
محمد أزواوي – وهو أسمه الفني – فنان طيب القلب ، أصيل المنبت حلو المعشر ، عرف عنه أنه كثيرا ما يرسم أغلفة المجلات وكتب الأصدقاء وغير الأصدقاء مقابل : ( رحمة الوالدين ) من هنا يلاحظ المتتبع لحركة النشر الليبية أن أعماله كثيرة ولها ثوابها وأجرها العظيم عند رب العالمين.
في شتاء عام 1979 - كنا : ( أزواوي وأنا ) في مهمة فنية مشتركة لها صلة وطيدة بالرسم والتصوير وسكنا سويًا في فندق – لندني – حقير ومشبوه !! في حي سوهو ، بإلحاح شديد مني ، وبدافع من رغبة قديمة تعود بي إلي زمن الولع بالقراءة لمعايشة أجواء رواية ( الضياع في سوهو ) للروائي الإنجليزي الشهير كولن ويلسن !! وحاولنا ذات ليلة ماطرة أن نفتعل الضياع والعربدة في أحد المشارب الشعبية في منطقة الصعاليك في هذا الحي الذي يقطنه ويتردد عليه كل مساء شراذم المثقفين من بقايا فلول الهيبيين وأنقذني فنان جزائري من ( طريحة ) دامية في آخر لحظة. ولذنا ( أنا وأزواوي ) بأول سيارة أجرة كانت تعبر أمام مشرب القط الأسود - وكنت والحق يقال المحرض علي هذه المغامرة الطائشة رغم تحذيرات أزواوي المتكررة الذي أصر في اليوم التالي علي الانتقال إلي أحد الفنادق المحترمة بوسط المدينة ، وكان له ما أراد . وفي لندن اعتدنا ( أنا وهو ) عقب كل قيلولة ، أن نبرح الفندق الجديد في جولات طويلة علي أرصفة نهر التايمز حيث الأسوار الحديدية التي تعرض اللوحات المستنسخة والأصلية لفنانين محبطين وفنانات يائسات ، نناقش هذا الفنان ونشد من أزره ونتحدث مع تلك الفنانة بمودة لا تخلو من روح المجاملة والتشجيع .
يتبادل الإبتسامات العابرة وعلي ما أتذكر الآن وفي حوالي الساعة العاشرة من صباح أول أيام الثلاثاء لوصولنا إلي لندن وبينما كنت معه في غرفته نتهيأ للخروج والتسوق العشوائي - طرق الباب خمسة من الطلبة العرب من ذوي الأنفاس الحارة والكلمات الضخمة والفضفاضة في شأن التحرر والإنعتاق وما إلي ذلك من ادعاءات داسها الزمن وتجاهلها التاريخ ، وكان من بين زوار ذلك الصباح اثنان من الطلبة الليبيين أخذا الفنان – بناء علي سابق معرفة سطحية تبلورت في مكاتب صحيفة الزحف الأخضر أيام تألقها وسطوتها وعنفوانها -أخذا الفنان أزواوي بالقبل والأحضان العنيفة ، أما الفتاة المرافقة لهم – تبين لي بعد قليل أنها عراقية – فقد اكتفت بالسلام عليه باليد وجلست بجواري وسألتني عما إذا كنت أعرف الصحفي الليبي رشاد الهوني رئيس تحرير جريدة العرب ، فسألتها بدوري عن رشاد وكيف تعرفت عليه فأخبرتني أنها تعمل في صحيفته كمترجمة بالصفحة الثقافية ، وشيئا فشيئا راق لي الحديث معها بسبب ثقافتها الموسوعية وبتأثير لا يقاوم من عينيها الطاغيتين وجسدها الحيوي والممتلئ في غير ما إسراف أو إهمال. انشغل الضيوف بالكلام مع الفنان أزواوي في تفاصيل لوحة تتصدر غلاف مجلة يعتزمون إصدارها قريبا في مدينة لندن ، مجلة ما يزال اسمها علي حد قولهم قيد الدراسة والبحث الدقيق ، من جهتي اقترحت علي ( عزة ) أن نواصل حديثنا عن الشعر والشعراء العراقيين هناك في شرفة الغرفة المطلة علي حديقة واسعة ذات أشجار عالية وممرات مرصوفة بالحجارة ، تتخللها مساحات خضراء. .
عزة :
شاعرة وصحفية عراقية - لندن 1979 أأقول أحبك يا - عزة - آه لو كان بإمكاني بمرور الوقت المحدود وبسرعة غير متوقعة اتفقنا حول بعض القضايا الصغيرة كما تقلص بيننا حيز الخلاف الشعري ، مما شجعنا علي تبادل أرقام هواتفنا ، وبالفعل التقينا ( عزة وأنا ) في المتحف البريطاني وفي حديقة الهايد بارك وفي البيكاديللي والطرف الأغر والتقطت لها أكثر من خمس صور مع طائري الأثير – الحمام - ومع تعاقب اللقاءات وبخاصة في المطاعم الهندية واليونانية ، تعلقت بها وتعلقت بي ، وفي ذات مساء دافئ بأحد المراقص قلت لها :
أأقول أحبك .. يا عزة فقالت هامسة وهي تتشبث بعنقي وتشاطرني رقصة ناعمة علي موسيقي تذوب بذاتها في ذاتها:
علمني حبك يا .. فتحي أن أحزن قصتي مع ( عزة ) لم تنته عند حد هذه اللقاءات ، ولا التخاطب والهمس بأشعار نزار بعد التصرف في صياغتها وتحويرها ، إذ ليس الآن مجال سردها بالتفصيل ، وأعود بكم لاستكمال رواية ختام ما دار بين الفنان محمد أزواوي والصحفيين الشباب ، فقد ودعهم عند المصعد المجاور لغرفته وعاد أدراجه يلوح بنظرة مفادها رغبته بالإنفراد مع نفسه ، فتجاهلت بدوري هذه النظرة والرغبة معا ، ولزمت مكاني واقفا وجامدا دون حراك ، فتطلع أزواوي إلي ساعته وأخبرني بأنهم عائدون بعد ساعة لاستلام الرسم فأرتميت علي أقرب مقعد عند المدفأة لأؤكد له إصراري علي البقاء لمعايشة ميلاد – لوحة – خطا بخط ولونا بلون فصاح في وجهي قائلا : طيب .. إذا كنت مصرا علي البقاء فأطلب لنا القهوة بلغتك الإنجليزية التي تتباهي بها فنهضت متثاقلا إلي الهاتف وطلبت القهوة له والشاي لي مع الحليب ، وقنينة مياه معدنية وعلبة سجاير ، والطلب الأخير إشارة أخري لبقائي في غرفته ساعة أو ساعتين حتي تنتهي اللوحة المطلوبة علي عجل. ومحمد أزواوي لمن لا يعرفه : فنان خلاق ومبدع ، إنه من أولئك الفنانين الكبار الذين يصنعون من الحبة قبة سماوية تزدان بنجومها وأقمارها ، بشموسها وأفلاكها ، فقد سمعت أحد هؤلاء الطلبة من شرفة الغرفة يعلن صراحة في الحصول علي ( لوحة معبرة ) تمثل الحال المرزي لما هو عليه وضع المقاومة الفلسطينية . وأزواوي لمن لا يعرفه عن قرب : قارئ ممتاز ، دؤوب علي متابعة كافة المجلات المصورة من مجلة الأمل إلي مجلة تايم ، ومتتبع لنشرات الأخبار في أهم القنوات الفضائية ، وفوق هذا وذاك مستمع جيد مع من يشاركه الحديث يستمع إلي مقترحاته بانتباه عميق وينفذ ما يمليه عليه حسه التشكيلي ، من هنا تأتي أعماله الفنية علي كثرتها مثقلة بالفهم والمعرفة ، بالنقاوة والنضوج. اللمسات التسجيلية رسم في البداية تخطيطا واضح الحدود لإنسان مصلوب علي الأرض ، وبجرة قلم رصاص حول هذه الأرضية إلي منضدة مستطيلة بالغة الأتساع تتحلق حولها الكراسي المتناثرة ، ولقد صورته وهو يغمس ريشته في اللون ويطعم بها المساحات في غير ما تبذير . وصورت أكثر من عشرين لقطة لمجريات تطور هذه اللوحة ، وصورته كذلك وهو ينقش توقيعه علي هذا الرسم جهة اليسار ذلك التوقيع المعروف للقاصي والداني في كل أنحاء ليبيا. ثم طرح اللوحة علي سجادة الغرفة ورشها بمادة مثبتة لحمايتها.
وبعد ساعتين - علي وجه التقريب - جاء الشاب الليبي الملتحي ، وسمعته عند باب الغرفة يمطر الفنان الكبير بكلمات الشكر والامتنان ( فقط لا غير ). أطباء بلا حدود في جمع النقود وتبين لي لحظتها بكل يسر أن المردود المعنوي وحده لا يختلف كثيرا عن : ( رحمة الوالدين ) فكلمات الشكر والثناء رغم أهميتها لا تسمن ولا تجدي نفعًا مع الفنان وغير الفنان ، ولا يمكن للفنان وغير الفنان أن يستعملها مقابل تسديد مستحقات فواتير الهاتف والكهرباء وتذاكر السفر والأهم من كل ذلك تغطية نفقات تكاليف العلاج في العيادات الخاصة التي تتعاطى هذه الأيام انتهازية لا تخفي علي أحد مفادها : أطباء بلا حدود في جمع النقود.
|
ــــــــــــــــــــــــــــــــ |