|
العدد |
رئيس التحرير : فتحي العريبي CV |
|
|
صدقوا أو لا تصدقوا فمعذرة لا يهمني أبدا رأيكم. يكفي أني رأيته وحادثته وقابلته وشاهدت الكرسي، فاعتبرت أني رأيت معجزة. ولكن المعجزة الأكبر، الكارثة، أن لا الرجل ولا الكرسي ولا القصة كانت تستوقف أحدا من المارة في ميدان الأوبرا لحظتها ولا في شارِع الجمهورية ولا في القاهرة أو ربما الدنيا كلها. كرسي هائل، تراه فتظن أنه قادم من عالم آخر أو أقيم من أجل مهرجان ضخم كأنه مؤسسة، واسع القاعدة، ناعم فرشه من جلد النمر، ومسانده من الحرير. وحلمك كله إذا رأيته أن تجلس عليه مرة أو لحظة. كرسي متحرك، يتقدم بتؤدة كأنه موكب المحمل حتى لتظن أنه يتحرك من تلقاء نفسه، وتكاد من الرعب أو الذهول تخر أمامه وتعبده، وتقدم له القرابين. ولكن في آخر وقت ألمح بين الأرجل الأربعة الغليظة المنتهية بحوافر مذهبة تلمع، ساقا خامسة ضامرة غريبة على الفخامة والضخامة، ولكن لا لم تكن ساقا، كانت إنسانا نحيفا قد صنع العرق على جسده ترعا ومصارف وأنبت شعرا وغابات وأحراشا. صدقوني فأنا بالأمانة المقدسة لا أكذب ولا أبالغ بل أنقل في عجز ما رأيت. كيف استطاع نحيف هش كهذا الرجل أن يحمل كرسيا كهذا لا يقل وزنه عن الطن أو ربما أطنان؟ ذلك هو المذهب للعقل، وكأنه شغل حواة، ولكنك تتمعن وتعود تفحص فتجد أن ليس في الأمر خديعة وأن الرجل حقيقة يحمل الكرسي وحده يتحرك به.
دار الأوبرا بالقاهرة أيام زمان قبل أن تحترق
والأعجب والأغرب والمثير للذعر أن لا أحد من المارة في الأوبرا أو في شارِع الجمهورية أو ربما القاهرة كلها يندهش أو يستعجب أو يعامل الأمر إلا وكأنه مسألة عادية مفروغ منها، وكأنه كرسي فراشة يحمله صبي ويمضي به. أنظر إلى الناس وإلى الكرسي والرجل عَلِّي أَلمح ارتفاعةَ حاجب، مصمصةَ شِفَاه أو صَيْحَةَ عجب. لا شيء مطلقا. وبدأت أُحِسُّ أن الموقف كلَّه شيءٌ من المرعب استمرار التفكير فيه. وفي تلك اللحظة كان الرجل بِحِمْلِهِ قد أصبح على قيد خُطْوَةٍ مني، وأصبحت أرى وجهَهُ الطيب، رغم كثرة ما فيه من تجاعيد، ومع هذا لا تستطيع أن تحدد له عمرا. ورأيت ما هو أكثر، فقد كان عارِيَ الجسد، لا يغطيه إلا حزامُ وسَطٍ متين، يتدلَى منه ساتِرٌ أماميٌّ وخلفيٌّ، من قماش قُلوعِ المراكب.
دار الأوبرا الحديثة
ولكنك لابد أن تتوقفَ وتحس بأنَّ عقلك قد بدا كالغرفة الخالية يصنع صدى. إنه يبدو في لباسه غريبا ليس على القاهرة وحدها، وإنما على العصر كله. تحس أنك رأيت له شَبَهاً في كتب التاريخ أو الحفريات، وفوجئت - هكذا - بابتسامة فيها ذِلَّةِ السؤال، وبصوتٍ، وبكلام:
- الله يرحم والديك يا ابني... شفتش عمك بتاح رع؟
وتماما توقفت كل قدرة أو رغبة في الدهشة عندي. إن مَنْ
يحمل كرسيا بهذه
الضخامة والثقل للحظة ممكن أن يحمله لآلاف السنين. لا
دهشة ولا اعتراض كل ما في
الأمر سؤال: ولكني صرخت - وقد بدأ يتحرك - أُوقِفُهْ، فقد لاحظت شيئا كالإعلان في مُقَدِّمَةِ الكرسي، بالضبط كانت قِطْعَةً مِنْ جِلْدِ غَزال، عليها كِتَابَةٌ قديمة، وكأنها النُسَخُ الأوُلَى للكُتُبِ المُنَزَّلَة، وبصعوبة طالعت: ( يا حَمَّالَ الكراسي، لقد حَمَلْتَ ما فيه الكفاية، وآنَ لك أنْ يَحْمِلَكَ كُرْسِي.
هذا هو الكرسي وغاب عنه الجمّال في ظروف غامضة
هذا الكرسِيُّ العظيم الذي لم يصنع مثله، لك أنتَ
وَحْدَكْ. احْمِلْهُ وَخُذْهُ
إلى بيتك، وضعه في الصدر، وتربع فوقه طول عمرك. وحين
تموت يكون لأبنائك(
. بفرح عظيم قلت له كل هذا، فَرَحٌ متفجر كمن كاد يختنق. فمنذ رأيت الكرسي، وعرفت القصة، وأنا أحس وكأني أنا الذي أحمله، وحملته عبر آلاف السنين، وكأن الذي انقطم ظهري أنا، وكأن الفرحة التي انتابتني، هي فرحتي للخلاص تأتي أخيرا.
برأس مُنَكَّس استمع الرجل، ولا اختلاجة،
كنت أتوقع فرحة مماثلة، انفراجة حتى ، ولكن وجدت لا شيء. ووقفتُ أرقبه، وقد بدأ الكرسي يتحرك، والرجل قد أصبح مرة أخرى، ساقُه النحيلة الخامسة القادرة وحدها على تحريكه.
وأختفي كذلك : يوسف إدريس - في زحام شارع الجمهورية
وقفت أرقبه، وهو يبتعد لاهثا يئن، وعرقه يسيل. وقفت حائرا أتساءل: أألحقه، وأقتله لأنفّس عن غيظي؟ أأندفع، وأسقط الكرسي عن كتفيه بالقوة، وأريحه رغما عنه، أم أكتفي بالسخط المغيظ منه؟ أم أهدأ، وأرثي لحاله؟ أم أَصُبُّ اللومَ على نفسي أنا، لأني لا أعرف أمارة . ؟
نقلا عن : http://www.al3arrab.com/vb/showthread.php?t=13911
|
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|
جميع الحقوق محفوظة لـ مجلة كراسي www.kraassi.com ولا يسمح بنقل أي جزء من نصوص وصور وموسيقي هذه المجلة والمنشورات الصادرة عنها إلا بإذن كتابي ، فيما عدا حالات الاقتباس القصيرة بغرض النقد أو التحليل وفقا للقواعد التي تفرضها الأصول العلمية . كراسي : أول مجلة لها سبق الريادة باللغة العربية وفي جميع لغات
العالم
|