|
العدد |
رئيس التحرير : فتحي العريبي |
|
|
محمد نبيل |
|
عندما طردت ذلك اليوم لم أكن أعرف السبب. كنت خارج فضاء غرفتي، ( غضباناً ) و في نفسي شيء من المرارة. حملت كل حقائبي وأوراقي إلا ذلك الكرسي الذي كنت أعشق النظر إليه أكثر من أن أجعله مساحة لتمديد مؤخرتي. عندما كان الكل يردد عبارات لا أفهمها، تدلت دموعي، رافقها صخب قاتل ممزوج بصراخهم. كانوا يقولون بأعلى أصواتهم: اخرج ، الماء و الشطابة حتى قاع البحر .*
تدحرجت و على كتفي صندوق خشبي تركه لي جدي من
أيام المقاومة وجيش التحرير، كاد أن يكسر عظام كتفي. وصلت إلى هناك حيث لا
أحد يمر بجانب قارعة الطريق أو يتكلم. صمت مطبق، عيون تتحاور دون أن تترك
فرصة للأجساد الآدمية أن تتحرك من مكان إلى مكان. كانت هناك وحيدة، واقفة تحت
سقف الباب تنتظر قدومي. نادتني وهي تغير من سحنتها. قالت قبل أن أحكي لها عن
رحلتي الشاقة مع بني جهل: ادخل، هذا مكانك الأبدي …على الأقل حتى أودع هذه
الحياة الملعونة. لم أفهم هذه الكلمات لحظتها، كانت المرحومة كالخطيب المفصول عن سامعيه. أردت أن أدون حالي على كاغد فيه رائحة قديمة توحي بقصص الأولين لكن وجدتها ثانية قبالتي تنطق بكلام غريب: لا ترحل بعيدا، لا تتركني لقمة لبني جهل. إنني لا أقدر على المشادات المجانية، فجسدي لم يعد يتحمل غبن الهزيمة.
تقدمت نحوها، كانت عيناي مغرورقتين ، مغروستين في صندوقي الكبير ،ثم أجبتها : أضغط علي الصورة لتكبيرها
لم أرغب في مواصلة الكلام عن الجارة هنية حتى لا أسقط ضحية انفعالاتي وأبدأ
في السب والشتم، فألعن الإنسان المنبطح، اللئيم الذي ينسى محنة أخيه. قلت لها
وأنا بين أحضانها أحرك صدري ويداي كطفل صغير يحتاج إلى حنان أمه: أحس وكأن في
نفسي شيطانا ماردا يشجعني على الرحيل،بينما لا أرغب أن أترك ذلك الكرسي
الجميل بين أيادي لا تعرف فن الجلوس.إنه العنف بعينه يا حسناء زماني.
لقد خيل لي في تلك الساعة أنني لم أعد فاهما و لا متعقلا لأسباب الماضي و
الحاضر. أصبحت دخيلا على أولئك الخاطفين. بدأ الشك يدب في نفسي، اعتقدت أن
الكرسي المعلوم يمكن أن أجد مثيله، فطرحت السؤال عليها بشغف وشوق لإجابة قد
تشفي غليلي: هل أجد هناك مثل ذلك الكرسي المخطوف ؟ أضغط علي الصورة التي تود تكبيرها
دون تردد،حملت بعضا من أوراقي المثقوبة و كتبي ذات الرائحة النتنة وقررت
الرحيل . قفزت خطوات إلى الأمام، آنذاك بدأت حسناء زماني تغمض عينيها، رحت
بسرعة البرق لأ نقذها من شر السقوط. حملتها على كتفي و ساعدتها على الاستلقاء
فوق السرير. كنت متيقنا من حالة احتضارها. فقد حسم مرضها الغائر نهايتها.
كانت تنظر إلي برأفة و حنان. رفعت حاجبها الأيمن، و هدلت عينيها على وجنتيها.
بدأت تعلن الشهادة في صمت مطلق. كانت تشد على يدي اليسرى وكأنها تريد أن تقف
على رجليها. حاولت لكنها سقطت على وسادتها المزركشة بألوان الصيف الباردة.
تنهدت ثلاث مرات متتالية ثم أخرجت من حنجرتها كلماتها الأخيرة قبل لحظة
الوداع: ارحل بعيدا حيث ترى الإنسان و الحب يجتمعان، وابحث عن الكرسي المفقود
ولو تحت الأرض، فإن عثرت عليه، عد إلي، قف قبالة قبري و اخبرني. قبل أن تختم جملها الموحية كانت قد فتحت فاها ، انتشرت الزرقة في كل أرجاء وجهها، وعندئذ فاضت عيناي ، فتبلل صدرها ، قبلت جبينها …لم يسمح لي بنو جهل إلا بتشييع جنازتها قبل مغادرة المكان نهائيا . كان اليوم أحد، كنت وحيدا أمام سبورة الرحلات الجوية، في عزلة غريبة أنتظر ساعة إقلاع الطائرة تاركا ورائي ذلك الكرسي في تلك البلدة المقهورة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن |
|
|
|