|
كان
البحر لحظتها مجنون العباب فيما أخذت الأمواج من جهتها تتقاذف السفينة
اليونانية المتجه بصعوبة إلى المواني التركية وكان من ضمن المسافرين علي
متنها سيدة كريمة تدعي : علياء حسين ، تصارع هي الأخرى نوبات شديدة من آلام
المخاض تصرخ تارة وتعض كم ثوبها تارة أخرى تصرخ وتستغيث والمشهد الذي يحيط
بها شبيه بقول الشاعر اللبنانى القدير - جورج جرداق : |
في بحار
تئن فيها الرياح ضاع فيها المجداف والملاح |
وأخيرا وبعد يومين كاملين علي هذا الحال تنفس قائد السفينة ومن معه الصعداء ، ومن دونهم جميعا أخرج الرجل الملتحي كيسا صغيرا من جيبه وطفق يحشو غليونه المعقوف بالتبغ الفرجيني إلى حافته وأشعل فيه النار بعود ثقاب واحد وهو يرقب سطوة الريح من وراء زجاج نافذة القيادة ثم أخذ نفسا عميقة كتمها داخل صدره ، جلس ومسح لحيته الغزيرة بيده اليمني وعاد يدخن من جديد معتبرا ما حدث في المقصورة رقم 15 التي تقيم بها السيدة (علياء حسين ) مع مولودها الجديد فأل حسن معتمدا علي فيض من أساطير أجداده في هكذا مصادفات . ففي ظهيرة يوم الخامس والعشرين من شهر نوفمبر عام 1912 أبصرت النور علي ظهر هذه السفينة طفلة موعودة أسمها : آمال فهد الأطرش ، وفي حوالي العاشرة من عمرها أو يزيد قليلا جاءت ( آمال ) إلى مصر مع أمها وأخويها فؤاد وفريد هربا من سطوة الاحتلال الفرنسي في منطقة الشام . أجواء ومناخات القاهرة الفنية شجعت مواهبها الموسيقية ومكنتها من إجادة الغناء والعزف علي العود بمساعدة من ( فريد ) الذي عُرف آنذاك في المدارس الابتدائية باسم : فريد كوسة لتمويه المخابرات الفرنسية عن هويته الحقيقية ومكان إقامته في مصر باعتباره ابنا للأمير والزعيم الدرزي فهد الأطرش المطلوب هو وأسرته من قبل سلطات الاحتلال في بلاد الشام . تعرف عليها
المطرب ( داود حسني ) في لقاء خاص واحتفل كثيرا بموهبتها وحين أقنعها باحتراف
الغناء أطلق عليها اسم ( اسمهان ) لتبزغ كنجمة مشعة في ليالي القاهرة فترة
العشرينيات من القرن العشرين وتحتل بسرعة مكانة متقدمة وتحجب الأضواء والاهتمام عن مطربات تلك
الأيام ليس بسبب جمالها غير السائد بين بنات مصر وحسب بل لروعة صوتها الشفاف
القادم من وراء الغيوم . |
الجميلة
اسمهان ومع شقيقها فريد الأطرش |
وعلي
نحو صدم الجميع وفي لحظة لم تكن متوقعة انقطعت اسمهان عن الفن والأضواء لمدة
ست سنوات متواصلة عقب زواجها من ابن عمها الأمير حسن الأطرش لتعود معه إلى
جبل الدروز موطن نفوذ عائلتها المناضلة هناك غير أن حنينها للفن ومرابع
الموسيقي والغناء في مصر المحروسة أشعل في بيتها حرائق الخلافات الزوجية وأدي ذلك
في نهاية المطاف إلى الانفصال عن زوجها الأمير الذي كان يغار عليها حتى من
نسمة صيف لتعود مسرعة كحمامة زاحلة طال غيابها عن برجها الأثير في مغاني
وحقول القاهرة وتبدأ من جديد في تحقيق انتصاراتها المتلاحقة عبر سلسلة من
الأغاني الرفيعة منها : |
يا حبيبي تعال ألحقني شوف اللي جرالي - واسقينها بأبي أنت
وأمي - وليت للبراق عينا وغير ذلك من الروائع الخالدة . |
كما لحن
لها شقيقها فريد الأطرش مجموعة من الأغاني الناجحة : ( نويت أداري آلامي –
رجعت لك يا حبيبي – أعمل إيه علشان أنساك ) . ومثلت مع فريد أول أفلامه (
انتصار الشباب ) عام 1941 كما أسندت إليها البطولة النسائية في فيلم غرام
وانتقام مع أنور وجدي . ومن أشهر أغانيها في الأربعينيات والتي ما تزال
تستحوذ علي الأسماع حتى الآن . |
دخلت
مرة في جنينة - والدنيا في أيدي - الورد - وليالي الأنس في فيينا - أهوي -
أيها النائم - أنا اللي أستاهل ، ورائعتها الدينية - عليك صلاة الله وسلامه . |
ولأنها ولدت في ظروف قاسية علي ظهر الماء كان القدر لها أيضا بالمرصاد كي يعيدها إلى الماء ففي صباح يوم الرابع عشر من شهر يوليو عام 1944 وفيما كانت تقود سيارتها الرياضية المكشوفة في طريقها للتصييف في منتجع رأس البر وقد أرخت لشعرها الأسود الفاحم يرقص علي أطراف كتفيها ويداعب عنقها الصغير علي إيقاع لحن جديد مرة تدنده ومرة تغنيه بصوتها الملائكي ومرة تغمض عينيها تحلق في كلمات الأغنية ومعانيها البالغة الحنان . وإذ هي
في مثل هذه الحالة من النشوة والانطلاق تصطدم بسيارة نقل( لوري ) ولم تستطع
السيطرة علي المقود فتدحرجت سيارتها عدة مرات رأسا علي عقب واستقرت بها في
أعماق ترعة عميقة كانت عند حافة الطريق السريع وفي لمح البصر يهرع الفلاحون
من الأنحاء المجاورة لنجدتها وبعد جهد يتم انتشالها من داخل السيارة المهشمة
جثة هامدة تحمل علي شفتيها طيف ابتسامة غامضة وبهذا الحادث المروع الذي رويت
حوله جملة من الحكايات الخيالية والأكاذيب المغرضة والمدسوسة أسدل الستار
نهائيا علي حمامة عربية أصيلة وهي ما تزال في زهرة العمر وعنفوان العطاء. |
|
الكتاب مجاز من قبل إدارة المطبوعات في بنغازي
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بنقل أي جزء من نصوص وصور وموسيقي هذا الكتاب إلا بموافقة كتابية خاصة ، فيما عدا حالات الاقتباس القصيرة بغرض النقد أو التحليل وفقا للقواعد التي تفرضها الأصول العلمية .
|
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |