|
|
|
بدايتها الفنية كانت من خلال صورة في حجم كف اليد ، صورة من زمن الأربعينيات بالأبيض والأسود نشرت بمجلة : الاثنين - مع غيرها من بنات عمرها ضمن مسابقة لأجمل طفلة بمناسبة أعياد شم النسيم . وقبل التقاط هذه الصورة بلحظات قليلة يقول لها المصور الأرمني العجوز : بما أنك ترتدين زي ممرضة .. هل تعرفين ما هو عمل الممرضة ؟ فتهز الصغيرة رأسها بما يفيد معرفة ذلك فيتراجع المصور خطوتين إلى الوراء ويطلب منها أن تنظر مباشرة إلى عدسة آلة التصوير الضخمة والمنصوبة علي أرجل خشبية عملاقة وأن تتخيل مريضا عزيزا عليها يعاني من الأوجاع في حاجة ماسة إلى مساعدتها . استرخت فاتن في جلستها ، نظرت إلى والدها ثم تحولت ببصرها إلى يديها الصغيرتين تنهدت زفرت أنفاسها بعمق ورفعت رأسها وأغمضت عينيها لبرهة ولما فتحتهما كانت الدموع الحقيقية تنهمر منهما بغزارة ومن دون تأجيل الموقف أو تضييع الوقت في إبداء كلمات الإعجاب بالمشهد الفريد أسرع المصور العجوز لاقتناص هذه الصفقة الفنية التي لا تعوض . وحين تحقق له ما أراد قبلها في وجنتيها قبلتين وأهداها دمية من صنع زوجته وسألها : أسمك إيه يا شاطرة ؟ فقالت : فاتن . فهمس في أذن والدها بضرورة الاهتمام بهذه الطفلة المعجزة . بعد يوم ويومين وجمعة نشرت هذه الصورة في مجلة ( الاثنين ) وفيما كان المخرج الكبير محمد كريم يتصفح هذه المجلة وقع بصره علي صورة الطفلة فاتن ، تأملها أولا بشكل طبيعي ، أبعد المجلة عن عينيه لمسافة معينة ثم عاد ودقق فيها النظر من جديد وأتصل هاتفيا علي الفور بالنجم الغنائي محمد عبد الوهاب الذي يهيئ نفسه لتمثيل فيلمه الأول - الوردة البيضاء - ويخبره بأنه قد وجدها أخيرا فلم يفهم عبد الوهاب من كلام مخرجه شيئا إلى أن أوضح له بأنه بات قاب قوسين أو أدني من الطفلة التي سوف تشاركه بعض المشاهد في الفيلم ومرة أخرى لم يكترث عبد الوهاب بالأمر وعاد يدندن بأغنية :( يا وردة الحب الصافي تسلم إدين اللي سقاكي ) . المخرج من فوره أتصل بإدارة المجلة معلنا عن نفسه ومهنته ومتسائلا بلهفة عن عنوان الطفلة فاتن وبعد مماطلة من أمين سر التحرير أخبره بأنها من مدينة المنصورة تلك المدينة التي عرفت عقب الحملة الفرنسية علي مصر بإنجاب الفتيات الجميلات . في صباح اليوم التالي شد المخرج محمد كريم وأحد مساعديه
الرحال في أول قطار متجه إلى هذه المدينة ومن دون صعوبة تذكر استطاع أن يأتي
بفاتن مع والدها إلى القاهرة ويقدمها للمطرب عبد الوهاب الذي قال عنها : دي
مش طفلة يا محمد . دي عفريتة !! بمعني أنها طفلة لماحة شديدة الحضور والذكاء
. |
|
ولم تكن فاتن البالغة من العمر خمس أو ست سنوات تدرك تماما ما هو المطلوب منها في قاعة التصوير المزدحمة باللوحات الخشبية المصورة ومصابيح الإضاءة والفنيين والعمال الذين يتحركون في المكان كالنحل ولم تكن علي معرفة مسبقة بالمطرب الشهير ولا بمكانته الفنية المرموقة واعتبرته بمرور الوقت وتجدد اللقاءات معه مجرد صديق لوالدها وشرعت تمازحه وتتلطف معه في الكلام وتناديه : عمو - وكثيرا ما تقول له : أنت حلو كتير زي بابا وعندما دارت ( الكاميرا ) للتصوير وانتهت من القبض بنجاح علي أول المشاهد للصغيرة فاتن صرح عبد الوهاب قائلا : إيه ده ! دي لُقطة كمان !! فردت بطفولة وعفوية : أحنا حنلعب وإلا إيه يا أستاز . فشاعت ضحكة رنانة في الأستوديو غمرت صدور وشفاه كل الموجدين في قاعة التصوير . من حينها قرر عبد الوهاب احتكار مواهبها الفنية تجاريا لصالح أعماله السينمائية التالية وبالفعل خاضت معه تجربتها الثانية عام 1944 في فيلم : رصاصة في القلب . ثم تحررت من أسر هيمنته عليها بعد انقضاء فترة العقد المبرم بينهما ومدته أربع سنوات فيما أخذت تؤدي مجموعة من الأفلام والقصص المتشابهة وأغلبها تدور حول المرأة العربية المغلوبة علي أمرها غير أنها وبعد سلسلة أفلامها الرفيعة من أمثال فيلم : دعاء الكروان وفيلم : الحرام - لمخرجها الأثير بركات وفيلم : أريد حلا - للمخرج سعيد مرزوق انتقلت من المحلية إلى العالمية وتم تكريسها في أكثر من مهرجان سينمائي دولي سيدة بمعني الكلمة للسينما العربية وفنانة عملاقة تتمتع بالثقافة الواسعة وعمق الاطلاع وأكثر من ذلك جودة الأداء والتمثيل وعوضا عن الخوض هنا في غمار تفاصيل فيلم : أفواه وأرانب
أو فيلم : لا عزاء للسيدات ، وهي من الأفلام البارزة في مسيرتها السينمائية
نتناول بإيجاز رائعتها المسماة : ليلة القبض علي فاطمة وهو الفيلم الذي تجري
أحداثه خلال مدة طويلة تبدأ مع حرب 1956 في بور سعيد ، وفاطمة كما يشير
الفيلم في بدايته امرأة سواحلية ، بنت بحري دمها حار جدا ، جريئة وصوتها
مرتفع وشجاع . والفيلم يعرض لحياة عائلة فاطمة علي مدي ثلاثين عاما ، فيلم لا
يتطرق مباشرة إلى الأوضاع السياسية في مصر في تلك الحقبة غير أن هذه الأوضاع
تظهر للمشاهد الذكي في خلفيات الأحداث وتؤثر في الشخصيات وعلاقاتها بعضها
بالبعض الآخر . |
|
السيدة فاتن حمامة تتمتع منذ أكثر من نصف قرن بالاحترام
والتقدير علي كافة الأصعدة الأدبية منها والثقافية كما تحظى بشهرة واسعة ومع
هذا كله لم تشعر أبدا بطعم السعادة من جراء هذه الشهرة لأنها حرمتها وهي ما
تزال طفلة من الاستمتاع بأوقات فراغها وكثيرا ما تجد صعوبة في ممارسة حياتها
العادية كالتسويق مثلا أو الترويح عن النفس في المصايف العامة وما شابه ذلك
وحتى وان وضعت علي عينيها نظارة سوداء سميكة وغيرت تسريحة شعرها بأخرى
مستعارة فان صوتها المميز ذلك الصوت الطافح بالوجد والعذوبة غالبا ما يخونها
ويعلن عن تواجدها ويلفت إليها الأسماع والأنظار معا وحينها لا تسلم من الزحام
الشديد من قبل محبيها ، منهم مثلا من يود التسليم عليها باليد وإبداء الإعجاب
بآخر أعمالها والتطرق إلى التفاصيل الصغيرة ومنهن من لا تكتفي بالقبل السريعة
بل يتعدى ذلك إلى الأخذ بالأحضان وذرف الدموع من وطأة هذه المصادفة النادرة
التي جمعتها مع ممثلتها المحبوبة ولا ينقذ حمامتنا العربية الوديعة إلا سحر
ابتسامتها وتوزيع مجاملاتها الرقيقة علي الجميع وبصعوبة تلوذ بسيارتها
الصفراء تقودها بسرعة وتنعطف بها عند أول شارع جانبي يأتي في طريقها وتقرر
بينها وبين نفسها عدم الخروج من بيتها ثانية ولكنها كأي مخلوق اجتماعي آخر لا
تقوي علي الحياة سجينة طوال الوقت بين الجدران المغلقة فتخرج من جديد ويتكرر
الزحام من حولها مرات ومرات وفي كل مرة تقول : دي آخر مرة . |
|
الكتاب مجاز من قبل إدارة المطبوعات في بنغازي
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بنقل أي جزء من نصوص وصور وموسيقي هذا الكتاب إلا بموافقة كتابية خاصة ، فيما عدا حالات الاقتباس القصيرة بغرض النقد أو التحليل وفقا للقواعد التي تفرضها الأصول العلمية .
|
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |