|
العدد |
رئيس التحرير : فتحي العريبي CV |
|
الكراسي الفارغة
|
أيتها الكراسي الفارغة . صدقيني . أنا لا أبالغ . لا
أغالي |
أيتها الكراسي الفارغة (**) ، معذرة إن جرحت صمت القاعة فيك ، أعرف أنهم يحبونك ، بصخبهم ، بفوضاهم ، ينتظرون ، يهللون ، يصفقون ، وكثيرا ما يرقصون ، ثم ينصرفون.
أجيء أنا
، الليلة من ضجيج الداخل ووجع الذي يحدث ، لا أحتاج ضوءا أو ديكورا ،
لا أريد لونا أو موسيقى. أيتها الكراسي الفارغة ، لا تتعجلي ، الأمر لا يتعلق بدور درامي بـ ( بروفة ) لا . أقسم لك بيأسي الجبار وكل الذل والضعف الذي أشعر به اللحظة.
أيتها الكراسي الفارغة ، احتمليني هذه الليلة ، ولك أن تختفي إنسان أنا ، لا أشبه كل الناس ، حلمت منذ الطفولة الباكرة بحبة حلوى وبذلة تليق بالجسد الصغير ، حلمت بعصفور يغرد من أجلي ، حلمت ببيت فيه أم وفيه أب ، لكني كبرت بعدها بألف دمعة ، كل حلم كنتُ أدفنه في صمت . لهذا كبرت هكذا عامرا بالعقد ، بالخوف ، والبرد. أيتها الكراسي الفارغة ، ربما كانت هذه فرصتي الأخيرة ، كي أقول ، من يدري؟ . مر التاريخ ، على جثتي ، ظلت الأماني تودعني واحدة بعد أخرى حتى ألتقيها ، غفوت في عينيها عمرا ، ثم تخلت عني حشرة صغيرة عافني رمشها ، لم أستوعب الحكاية ، كانت الأسئلة ، كانت المرارة ، ثم كان البكاء. عند البدء كتبتها حرقة مكابرة لكنها انتشرت في دمي ، تكاثرت ، صارت الليل ، المدن التي أزور والتي لم أر ، صارت المطر ، الطريق ، كل الدروب ، والغاية التي لن أدرك . بعدها أخذت شكلا مميتا مغايرا ، صارت الكأس ، الغياب الذي يحيل لحضور قاتل ، وصارت الذي صارت. أيتها الكراسي الفارغة ، لم أكن يوما مولعا بالعشق ، وقصص الوجد ، لكني أقول ، الذي أشعر به . آلاف تعاقبوا على الركح ، قالوا الفرح ، الحزن ، الموت ، الحياة . لي الحق في أن أصرخ الآن بكل الألم فيّ : آه . أمسى لأخبار الدم والخراب : مئة قتيل في مجزرة وحشية ، عشرات الأطفال يذبحون ، انفجار أكثر من عشر قنابل ، عدد الضحايا في تزايد مستمر . لا يمكن أن أطيل السهر خارج البيت ، لا يمكن أن أثق في أقرب الأصدقاء ، لا يمكن. أيتها الكراسي الفارغة، أصر على أني لا أتحدث عن فيلم خيالي أو نص يكسر روتين النصوص المتداولة ، لكني أنقل لك وشوشة الرصيف ، سر انحناء الأشجار ، وإضراب العصافير عن الغناء أو بناء الأعشاش.
أيتها الكراسي الفارغة ، سأنصرف الآن أيتها الكراسي الفارغة ، يوم غادرت الجامعة ، كنت عامرا بالحلم ، والحياة . قلت : سأصير محاميا أدافع عن المظلومين والمقهورين ، سأحارب الظلم ، الرشوة والقهر . لكني انتهيت إلى الصحافة ، فتحت قلبي وصفحاتي لأنات الناس ، كنت محاميا على طريقتي ، لكنهم كسروا الناي ، قطعوا جناح البلبل الذي كنت أخبئ للشتاء الأخير ، وأحرقوا رسائل الأطفال وصورهم ، عندها حملت دمعة أمي وبعض الصور القديمة وغادرت. رفضتني كل المطارات، كل المحطات أرصفة بلاد الآخرين صرخت في وجهي: ليس من عادة تربتنا أن تحتضن نبتة للجراح والعويل . فعدت ، عدت سنبلة مقهورة ، لا تجرؤ على أن تحيِّي النسيم . رأيت الكراسي الفارغة ، كم أنا مهزوم ، مكسور ، ووحيد. أيتها الكراسي الفارغة ، احتمليني هذه الليلة ، ولك أن تختفي ، أن تنهاري ، أن يغرقك الطوفان ، أن تندثري ، فذاك القرار السليم ، لن تندمي غدا . ربما جاءك المصفقون ، كي يحرقوا حطبك بالدجل والهراء ، حطبك ، يكون قد أحضره حطاب فقير . حطبك ، يكون قد صنعه نجار وحيد. أيتها الكراسي الفارغة ، بعد الذي حدث ، وجدتني بقلب ليل ، فيه صوت صفارة إنذار ، صوت صرصور ، وصوت موت . عادة ما يجيء صامتا. أصدقائي . ودعتهم ، في العتمة الماطرة والمقمرة - على حد سواء - بعضهم عاد بجنون . بعضهم عاد بعاهة مستديمة . والبعض الآخر عاد . لا . لم يعد. أيتها الكراسي الفارغة . صدقيني . أنا لا أبالغ . لا أغالي . الأمر هنا لا يحتاج للغة ، لأسلوب ، لتسلسل . الأمر هنا يتعلق بالحقيقة. بعد الليل العصيب . وجدتني بالجريدة من جديد .الجريدة القديمة التي قد تغلق أبوابها . مازال الظالمون والرديئون سادة الوقت والمكان . في بيتي البسيط الزهيد الذي لا يزيد عن غرفة ضيقة واحدة . ثمة قطعة من روحي ، يأكلها مرض خبيث : السرطان . كل لحظة . كل ليلة قبل أن أنام ، أودّعها استعدادا للرحيل الكبير. عاد السفر من جديد يملأ حقائبي بالشوق الباكر . وصباحات المدن التي لا أعرف . يجب أن أغادر هذا الخواء المهول ، هذا الفراغ المتوحش . أموت جدا إن مكثت بعض الوقت هنا . ليس من حقي أن أحب - من جديد -ليس من حقي أن أتزوج . الأشجار في حيِّنا عارية تماما . أخاف على عشي من الاندثار . إن كنت تقدّرين موقفي - أيتها الكراسي الفارغة - فامنحيني تذكرة للغياب الجليل ، وابكي يوما إن عادت جثتي ملفوفة في غصتها. أيتها الكراسي الفارغة ، سأنصرف الآن . لا أحتاج لضوء ، لستار . لا أحتاج تصفيقا . سأخرج في صمت ، تماما كما دخلت . وإن منحوك الفرصة ، قولي لهم : الكراسي الفارغة كانت النص الوحيد الذي استوعب خيبة الدنيا . خراب المعاني . وفوضى المواقيت.
(*)-
مراد
بوكرزازا
(**)-
نقلا عن :
|
|
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|
جميع الحقوق محفوظة لـ مجلة كراسي www.kraassi.com ولا يسمح بنقل أي جزء من نصوص وصور وموسيقي هذه المجلة والمنشورات الصادرة عنها إلا بإذن كتابي ، فيما عدا حالات الاقتباس القصيرة بغرض النقد أو التحليل وفقا للقواعد التي تفرضها الأصول العلمية . كراسي : أول مجلة لها سبق الريادة باللغة العربية وفي جميع لغات
العالم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|